Friday, July 25, 2008

دراسة في كتاب

"العمدة" لابن رشيق القيرواني

تعريف موجز بصاحب الكتاب

هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، ولد في نهايات القرن الرابع الهجري في مدينة (المحمدية) في المغرب العربي، وكان ذا ميول أدبية فاتجه إلى القراءة، ورغب في الاستزادة من علوم اللغة والأدب، فرحل إلى القيروان ولما يبلغ السابعة عشرة، واتصل ثمة بالمعز بن باديس وابنه تميم وأهل العلم والأدب فاشتهر أمره ونبه ذكره[1].

تتلمذ على يد أشهر علماء عصره كالقزاز النحوي صاحب (الضرائر الشعرية) وعبد الكريم النهشلي صاحب (الممتع في علم الشعر وعمله) وغيرهما.
توفي رحمه الله غرَّة ذي القعدة سنة 456هـ عن ست وستين سنة.

مؤلفاته:

ترك ابن رشيق آثارًا نقدية جُلَّى يتصدرها كتابه ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده). ولـه أيضًا (قراضة الذهب) الذي صنّفه للرد على ابن شرف الذي اتهم ابن رشيق بالسطو على آراء أستاذه عبد الكريم النهشلي. ولابن رشيق كتاب (أنموذج الزمان في شعراء القيروان) ويسمى في بعض النسخ (الأنموذج في الشعراء) وهو ترجمة مفصّلة لشعراء القيروان في عصره. وإضافة إلى تلك الكتب فلابن رشيق عدد من الرسائل المفقودة.
جهوده النقدية: يُعَد كتاب ابن رشيق (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده) واحدًا من أهم المنجزات النقدية العربية قديمًا، ويُعدّ – أيضًا – موسوعة نقدية بالنظر إلى ما أُلف قبله من كتب النقد الأدبي في المشرق وقتذاك. لقد أحدث (العمدة) نُقلة نوعية في الجهود النقدية العربية؛ ذلك أن المؤلف اطلع على دواوين العرب واستوعبها، وألمَّ بما صنّف قبله من بحوث في اللغة والأدب والنقد والبلاغة وأحاط بها علمًا وفهمًا فهضمها وتمثلها.
قال صاحب الوفيات: "وقد وقـفـت على هذه المصنـفات والرسائل فوجدتها تدل على تبحره في الأدب واطلاعه على كلام الناس ونقله لمواد هذا الفن، وتبحره في النـقد وله كتاب في شذوذ اللغة يذكر فيه كل كلمة جاءت شاذة في بابها، ومن شعره:

إذا ما خففتُ لعهد الصبا وما ثقلت كِبَــرًا وطأتي .

أبَت ذلك الخمس والأربعونا ولكن أجر ورائي السنينا"[2] .

وله شرح على موطأ الإمام مالك ذكره الإمام اللكنوي في التعليق الممجد قال عنه:
ومنهم: ابن رشيق القَيرواني المالكي المتوفّي سنة 456 هجري ذكره صاحب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، وهو العلامة البليغ الشاعر أبو علي حسن بن رشيق، على وزن كريم، صاحب "العمدة في صناعة الشعر" و "الأنموذج في شعراء القيروان"، و "والشذوذ في اللغة".

قراءة في كتاب "العمدة".

إن "العمدة" كتاب الذي خلد اسم صاحبه وشهره من بين آثاره، وقد أراد له أن يكون موسوعة في الشعر ومحاسنه ولغته وعلومه ونقده وأغراضه، والبلاغة وفنونها، وما لابد للأديب من معرفته من أصول علم الأنساب، وأيام العرب، وملوكها وخيولها وبلدانها، وفيه 59 باباً في فصول الشعر وأبوابه، و39 باباً في البلاغة وعلومها و9 أبواب في فنون شتى.


ألف ابن رشيق كتابه ما بين سنة 412 و425 هـ وأهداه لأبي الحسن ابن أبي الرجال الشيباني مربي المعز بن باديس ورئيس ديوان كتّابه الذين كان منهم ابن رشيق، ورجع فيه إلى ما ينيف على الثلاثين كتاباً غير الدواوين، منها كتب ضاعت بتمامها كطبقات الشعراء لدعبل، والأنواء للزجاجي، وعلى "العمدة" معول كل من طرق هذا الباب من الكتاب، فعندما طبع سنة 1928 م كتاب "كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر والكاتب" المنسوب لضياء الدين ابن الأثير تبين أنه نقل عن "العمدة" مائة وإحدى عشرة صفحة كاملة، وأنه ليس في الكتاب سوى خمس صفحات خالية من النقل عن العمدة. وللعمدة نسخ مخطوطة في الكثير من مكتبات العالم، إلا أن أقدمها لا يتجاوز عام 679 هـ وقد أتى على وصفها ووصف طبعات الكتاب منذ طبعته الأولى بتونس سنة 1865م الدكتور محمد قرقزان في طبعته المميزة للعمدة، وأشار في مقدمتها إلى عثرات ابن رشيق وأخطائه وأوهامه، وأتبع ذلك بذكر ما لحق طبعاته المختلفة من التصحيفات والتحريفات، ولابن رشيق كتاب يعتبر بمثابة الذيل للعمدة سماه "قراضة الذهب في نقد أشعار العرب".

يقول ابن رشيق في كتابه "العمدة": "روي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب، وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر فيه كلام حسن وقبيح، فخذ الحسن واترك القبيح، ويروى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه، وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: الشعر ميزان القول، ورواه بعضهم: الشعر ميزان القوم"، وفي موضع آخر يقول: "ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهاراً للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظوماً غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين .. ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه"![3].

نوعية الكتاب

إن كتاب "العمدة" الذي نحن بصدد قرائته، يندرج ضمن كتاب النقد في الشعر العربي، ولعلى أبرز القضايا النقدية التي تضمنها هذا الكتاب هي :

1- موسيقا الشعر:


عقد ابن رشيق فصلاً في فضل الشعر، ورأى أن المزيّة للشعر إذا اتفق هو والنشر في طبقة واحدة، ذلك أن للشعر نظامًا موسيقيًا مميزًا يعطيه الأفضلية على نظيره.
وفي بابي الأوزان والقوافي قرر ابن رشيق أن الوزن أعظم أركان الشعر وأولاها به خصوصية، والوزن مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة والمطبوع يستغني بطبعه عن معرفة الأوزان حتى أن ابن رشيق لا يعد التضمين العروضي عيبًا إذا كان الشاعر مجيدًا.

2-
الطبع والصنعة:


حظيت هذه المسألة – وبخاصة جانب الصنعة – باهتمام ابن رشيق، ولنا أن نزعم أن كتابه كله دليل لصنعة الشعر. و قد عرّف المطبوع من الشعر بأنه ما وضع أولاً، وهو الأصل وعليه المدار والمصنوع هو الذي وقعت فيه الصنعة من غير قصد ولا تعمل، وهذه الصنعة قديمة مارسها جماعة من المحسنين الذين سموا (عبيد الشعر).
وقد أفاض ابن رشيق الحديث عن الطبع والصنعة، وتفاوت الشعراء في ذين المفهومين، وعن العادة التي يستدعي بها صاحب الصنعة شعره كالخلوة والنزهة والسماع والشرب.
كما تحدث عن البديهة والارتجال وذكر أن وقوعهما للمطبوع أكثر وأولى، وهما يدلان على الانهمار والتدفق عند الشاعر.


3-
حَدّ الشعر وبنيته:

تابع ابن رشيق في وقوفه عند حد الشعر ما قاله السابقون من أن الشعر يقوم على أربعة أشياء هي اللفظ والوزن والقافية والمعنى، بيد أنه زاد (النية والقصد) شرطًا لتمييز الشعر.
ويشبه ابن رشيق البيت من الشعر بالبيت من البناء، فقراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، والأعاريض والقوافي كالموازين للأبنية، وما سوى ذلك من محاسن الشعر فهو زينة. وهذا التنظير كلام نفيس يحتاج إلى إعادة نظر من قبل النقاد؛ إذ يحوي تصورًا دقيقًا لمفهوم القصيدة عند القدماء.

4-
اللفظ والمعنى:


قضية اللفظ والمعنى والعلاقة بينهما من أهم القضايا النقدية التي احتواها كتاب (العمدة) وقد بحث ابن رشيق المسألة عن طريق التشبيه فشبه اللفظ بالجسم، والمعنى بالروح، وشبه ارتباط المعنى باللفظ بارتباط الروح بالجسم، وتبرز هذه الصلة بينهما في تأثر كل منهما بالآخر قوةً وضعفًا .وأخذ ابن رشيق يشخص الحالات التي تنتج من هذه الصلة؛ ففي حال سلامة المعنى مع اختلال بعض اللفظ ينقص قدر الشعر، وفي حال ضعف المعنى يضعف اللفظ تلقائيًا وهكذا.

وحديث المؤلف في العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست جديدة ،فقد سبقه الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما، بيد أن ابن رشيق توسع في المسألة.


5-
صفة الشاعر:


تغاضى النقد الحديث عن هذه القضية في الوقت الذي اهتم بها القدماء، وابن رشيق في حديثه عن صفة الشعراء ينطلق من منطلق فني؛ فيقسم الشعراء بحسب تفاوت مستوياتهم الفنية على أنه يستطرد فيتحدث عن أخلاق الشاعر وآدابه وصفاته المعرفية.

6-
صفة الناقد الأدبي:


وكما تحدث ابن رشيق عن صفات الشعراء تحدث عن صفات النقاد، ووصفهم بصيارفة الكلام، واشترط لدخولهم عالم النقد أن يكونوا ذوي خبرة ومراسة، ونقل في هذا كلامًا عن الجاحظ (أنه طلب الشعر عند الأصمعي فوجده لا يحسن إلا غريبه، ورجع إلى الأخفش فوجده لا يحسن إلا إعرابه، فعطف على أبي عبيدة فوجده لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلّق بالأيام) وابن رشيق يريد من هذا النقل أن يؤكد على أن الشعر قد يميزه من لا يقوله لكنه يكون به أبصر من العلماء بآلته. والقضايا النقدية في كتاب العمدة كثيرة ثرية بيد أني أكتفي بما عرضت طلبًا للإيجاز. وإضافة إلى هذا الكتاب فإن لابن رشيق منجزات نقدية في مؤلفات أخرى ففي كتابه (قراضة الذهب) حديث ضافٍ عن السرقات الأدبية ورأيه فيها وقد فصَّل الحديث في السرقات في (العمدة) أيضًا. وفي كتابه (أنموذج الزمان) الذي هو في أصله تراجم لشعراء القيروان في عصره بيد أنه لا يخلو من ملامح نقدية ثرّة كالحديث عن المذاهب الفنية للشعراء، وقد يوازن بين شاعر قيرواني وآخر مشرقي وهكذا

كيف بدأ ابن رشيق كتابته ؟

بدأ ابن رشيق كتابه مدافعاً عن قضية الشعر التي يعتقد موضوعيتها ومصداقيتها، وكانت وسيلته لإقناع غيره عرض شواهد منطقية فعرض المقاييس البلاغية والنقدية لنقد الشعر. ومن أجل أن يتحقق له ما يريد من إبراز لقيمة ما عرضه من شواهد ومن إقناع للمتلقي أخذ بإظهار الجديد في الشعر، فهو يتغيا القوة في الشواهد من حيث العمق لترسية النظرية التي يتبناها حول الشعر والشعراء.

أخذ ابن رشيق على عاتقه معالجة نظرية الشعر التي وضحها من خلال تجلية مفهوم البيان الذي يعني عنده اقتدار المتفنن على نقل ما في نفسه إلى المتلقي بوساطة تراكيب ومفردات عالية الطبقة من خلال الاستعارة وغيرها.

يتابع ابن رشيق إبراز جماليات نظرية الشعر من خلال البديع الذي يعني به الطريف الجديد المؤثر على غير تقسيمات علم البديع عند البلاغيين، حيث أخذ هذا المعنى لمفهوم البديع من ابن المعتز (ت: 296هـ) من كتابه البديع.

يحترم ابن رشيق ذكاء المتلقي فيكثر من تنوع الشواهد البلاغية ويقوم بتحليل أغلبها حتى يشركه أكبر عدد من المتلقين فيما يذهب إليه في نظرية الشعر ونقده وآدابه ومحاسنه.

يتابع ابن رشيق في بناء المفهوم الشعري فيرمي إلى مستقبل هذا الشعر من وظائف نفسية واجتماعية وجمالية لتدخل جميعاً تحت ما يسمى بالذوق الشعري أو الطبع الشعري أو الملكة أو قدرة المتفنن على إقناع المتلقي. وحيث إن ابن رشيق ينزع دائماً إلى التطبيق يأخذ بعرض نموذج فني لبعض أغراض الشعر التي تدور في المجتمعات من أفكار المادحين والهاجين؛ لأن الطبائع مقسومة بين الإيجاب والسلب، فمنها ما يتربى على المحامد، ومنها من يألف المثالب. فحاول ابن رشيق من خلال الشعر أن يعرض إلى نزعات أولئك ورغبات هؤلاء من غير أن يمارس الهجاء بوصفه هدما نفسياً اجتماعياً، ولكنه أراد كشف النفوس ليتعالق الكريم مع الكريم ويتناكر الكريم مع اللئيم.

ويذهب ابن رشيق إلى أن الشعر لا ينقطع عن الفكر بل لا بد من أن يسبح الشعر بأحداث تاريخية، كما أنّ التاريخ يجب أن يجمّل بالرشفات الشعرية، كلاهما موطن للدفاع عن نظرية الشعر، وكلّ منهما يقوي الآخر ويعضده ويآزره.

وتكميلاً لنظرية الفكر وما تحدثه في مفهوم الشعر استمر ابن رشيق في إبراز المهاتفة بين الشعر والبيئة، تلك القضية التي سبقه إليها القاضي عبد العزيز الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" وكان من أعلامها من النقدة الفرنسيين في العصر الحديث سانت بيف، وبرونتير وهيبولت تين. وبهذا يكون ابن رشيق قد عرض إلى نظرية الشعر من خلال:

1. التعريف 2. الأقسام 3. الوظيفة

4. الشعراء 5. القضايا الشعرية 6. المقاييس البلاغية والنقدية والأدبية

7. الإطار الفكري.

وبهذا يكون قد أحكم الموضوع في مثلث مشهور بين الدارسين في الأدب والنقد والبلاغة والجماليات والمقارنات، وهو مثلث الزمان والمكان والإنسان.

بين القدماء والمحدثين، نموذج تطبيقي

يعد الزمن واحداً من المقاييس النقدية الهامة التي كان يعتمد عليها في الموازنة بين الشعر والشعراء ، وتفضيل هذا الشاعر على ذاك، أو تقديم هذه الأبيات على تلك، من قِبَل العديد من البيئات الثقافية، كالرواة واللغويين والبلاغيين والنقاد وغيرهم، يقول ابن رشيق : " كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله"[4] فكل إنسان في هذه الحياة قديم محدث، فهو قديم بالنسبة إلى أخلافه وحديث بالنسبة إلى أسلافه, ومذهب ابـن رشيق تفضيل الحديث كما سنرى لاحقاً، ويمكن تقسيم الاتجاهات عند أبي رشيق إلى قسمين رئيسين:

الأول: نلمح فيه نقضاً لشعر القديم على المحدث وتنكراً لأشكال الحسن والجودة في أشعار المحدثين ويمثله الرواة وعلماء اللغة بشكل أساسي .

والثاني: نقع فيه على نظرات حاولت أن تنصف الشعر المحدث، وتعترف له ببعض الفضل، وتنظر إليه بعين العدل والإنصاف وممثلوا هذا الاتجاه في أغلبهم النقاد.

أما الاتجاه الأول فإننا نقع فيه على الكثير من الموازنات النظرية والتطبيقية التي تعكس لنا وجهة نظر ممثليـه, والتي تتلخص بتفضيل الشعر القديم بكافة أشكاله وبغض النظر عن قائله, فذهب ابن رشيق في أن الذين فضلـوا القديم على الحديث كانوا من المشتغلين بالدراسات اللغوية المتصلة باللغة نحوها وصرفها ومتنها، كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي, والأسباب التي حدت هؤلاء الرواة واللغويين إلى تفضيل القديم والتعصب له، هو مجرد التقدم في الزمان, وسبق المتقدمين إلى المعاني واستنفاذها, وغلبة الطبع على أشعارهم

وأما الاتجاه الثاني, فإننا نجد أصحابه هم النقاد وقد نظروا إلى الشعر المحدث نظرة عادلة منصفة وأعطوه مرتبة الحقيقية التي يستحقها , وبينوا ما لهذا الشعر وما عليه وحاول الكثيرون منهم أن يبتعدوا عن العصبية والهوى في نقدهم, وفي مواقفهم من الشعر القديم والحديث، ومن هؤلاء النقاد ابن قتيبة .

ومع هذا فإن ابن رشيق لا يمتنع من أن يجعل الشعراء أربع طبقات جاهلي، وقديم, ومخضرم, وإسلامي, ومحدث ثم صار المحدثون طبقات أولى وثانية على التدريج وهكذا في الهبوط. ونلمح من خلال ذلك ميلاً إلى تأخر الشاعر بالزمان, وإذا صح ذلك يكون ابن رشيق قد نسخ مذهبه في تفضيل الحديث، لكنا حين نمعن النظر نرى أن مساق هذا التقسيم جاء ليحمل المحدثين على الوقوف على شعر المتقدمين ليفيدوا منه.

وكلام ابن رشيق يقوم على الموضوعية في نقد الشعر, فهو لم يفضل شعراً لقائله أو لزمانه ويؤيد هذا الكلام قول علي (رضي الله عليه) :" لولا أنّ الكلام يعاد لنفذ" ، لأنه لا أحد أحق بالكلام من أحد، وإنما السبق والشرف في المعنى، فقد تختلف المقامات والأزمنة والبيئة، فاستعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً من غيره، كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم ونوادر حكايتهم.

وترتبط قضية القدماء والمحدثين في مذاهب افتتاح القصائد، لما فيه من عطف القلوب بحسب ما في الطباع من حسن الغزل, فقصائد أهل البادية فيها الرحيل والانتقال وتوقع البين, والاشفاق فيه، وأكثر أهل الحاضرة يأتي نغزلهم في ذكر الصدود والهجران والواشين والرفقاء وذكر الشراب والندامى، فكل هذا يأتي من أثر المكان في البادية والحاضرة, كما هو أثر الزمان في القدماء والمحدثين.

أما الأبواب الأخرى المذكورة في كتاب ابن رشيق، فهي تتحدث عن مقام يذكر دائماً, فقد كانت القبيلة من العرب إذا نبغ منها شاعراً أتت القبائل تهنئها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر, كما يصنعن العرائس, لأن الشاعر يقوم بحماية أعراضهم ويذب عن أجسامهم ويخلد مآثرهم ويشيد بذكرهم, أما باب من فأل الشعر وطيرته, فقد كان متأثراً بالحديث النبوي الشريف الذي يقول: " أنه- يعني الرسول عليه الصلاة والسلام- كان يحب التفاؤل ويكره الطيرة", فالملدوغ من العقرب يسمى سليما تفاؤلاً بسلامته.

أما باب من منافع الشعر ومضاره، فلقد جاء ابن رشيق بنبذٍ ترسم الكتاب، لأن الناس أكثروا من هذا الفن فالقلوب تحب الرغبة تحسين الحسن والتزيد منه، وتقبيح القبيح والنهي عنه, وهذا يوازن قول عائشة ( رضي الله عنها ) والصحابة التابعون في الشعر من أنه: " كلام يحسن فيه ما يحسن في الكلام، ويقبح منه ما يقبح من الكلام".

أما باب تعرُّض الشعراء , فإن هذا الباب قد ذكر فيه العورات والسوءات، والأصل في الشاعر أن يكف منطقه، ويقلل من عثرات لسانه، لما رزق القدرة على الكلام، والعفو من القادر أحسن، قال تعالى :{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)[5].


لائحة المصادر والمراجع

1- القرآن الكريم.

2- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، 10، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الدار البيضاء، 4040 هـ.

3- الوفيات الأعيان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الصادر بيروت

4- http://www.islammemo.cc/article1.aspx?id=25229



[1] العمدة في محاسن الشعر وأدابه ونقده، أبو الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، ج : 1، ص : 10، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الدار البيضاء، 4040 هـ.

[2] الوفيات الأعيان، لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الصادر بيروت

[3] http://www.islammemo.cc/article1.aspx?id=25229

[4] العمدة في محاسن الشعر وأدابه ونقده، أبو الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، ج : 1، ص : 90، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الدار البيضاء، 4040 هـ.

[5] سورة الشورى : 41-42.

No comments: