Friday, July 25, 2008

مخطوط تم ترقينه حول

الفقيه الأديب أبو العباس سيدي

أحمد بن عبد الحي الحلبي رحمه الله

إمام مذكور، وهمام مشكور، ومعروف فصاحة غير منكور، وبحر لا تُكدره الدلاء، وحبر يفاخر أعلام الدلاء، من رجل مازال للتعليم يلتمس، ويمزق ثوبَ التسويف كصحيفة المتلمس، حتى ألقتْ إليه العلوم قيادها وترك الأقران بملابس البقر أولادَها، فأعجزتْ مفاخره كل ناقد، وغادرتْ فصاحته سحبانَ أعيى من باقل، نشأ بحلب، واحتلب من بدي المجادة بما احتلب، ثم تركها ترك الظبي ظله، وخالف رأي الإقامة بها مخالفة عمرو بن سعيد أبله، أجل وأزمع البعد عنها والنأي، واستقصر رأي من نهاه، ولا يطاع لقصير رأي، واحتمل من كد النقل في طلب العلم ما احتمل، وعلم بوافر عقله، أن الثمر في البيَد على ظهر الجمل، حتى حل بدره بفاس حلول الشمس في الجمل، فاستفى بها من جوى التبريح، وجاءها من أنواع الأدب بالضح والريح، فكابد من أهلها ما كابد من الحسد، ثم جال فيهم بعقله الأسيد جولان الأسد، فألقوا إليه السلََم، وكلفوا به كلِف الحلى بعُرب ذي سلم، وأعظموا أمره، وأصغروا دونه، زيد الأدب وعمرَه، وأدوا بحرم قصائده حجة الإعجاب والعمرة، ولما رسب فكره في بحر المعاني وطفا، وخمد له جمر أهل العناد وطفا، أنفق بضاعة عمره على مدح المصطفى، وجنح إليه كما جنح إلى الحمام ابن الخطفا، فعلا قدره، وامتلاء بالأنوار صدره، حتى عد الناس خواصه، وانتهى بهم إلى مقام الخاصة، وقد أثبت من كلامه ما يعتمده ابن العميد، ويستعبد أبا عبادة، وعبد الحميد، فمن ذلك قوله يتوسل ويطلب أن يتوصل :

يا رب إني ضعيف مالني الوجل

وليس لي ملجأ إلا إليك وقد كيف السبيل إلهي للخلاص وقد يبكي المعنى ولكن ليس ينفعه

ما حيلتي يوم هول العرض مالعمل ؟ ظاقت هذا العُبيد المذنب السبل حملت وزرا أيا مولاي ما الحيل ؟ بما عليه من العصيان يشتمل

ومنها:

من لي سواك لهذا الضر يكشفه من للأمور إذا ضاقت يفرجها

والفضل منك بكل الخلق يتصل سواك يامن عليه العبد يتكل .

ومنها :

يا من تجلى بسلطان على جبل أقل عنادي وأرشدني وخذ بيدي صلى عليه إله العرش ما طلعت .

فخر موسى ودك السهل والجبل بمن أتى رحمة لاذت به الرسل شمس النهار، وما حنت له الإبل .

وله قصيدة أسماها "بعمدة الغريب في مدح الهادي الحبيب"، ومنها :

أرقتُ والدمع فوق الخد ينسجم أو القباب بدت من نحو أرض قبا فاخلع عذارك إن رمتَ العقير وهم قف بالحصى وقل يا أهل ذي سلم مازال في رقكم يرعى لكم حرما كم بات يقرع سنا بعدكم ندما يا لائمي لا تلمني في محبتهم فكيف ترسِل بالتعنيف ذا وصب أم كيف تسكن أضلاع بها ألم ظفقت تنصحنى من بعد ما كلفت .

كأنما لك بان البان والعلم أو لاح برق من الزوراء يبتسم إن الصبابة سر ليس ينكتم عُبَيدكم صح فيه البيع والسلم يقبل الأرض من بعد ويستلم متى بكى بدموع قد مزجن دم وصالهم لي شفاء والنوى سقم أم كيف تسمع قل لي من به صمم ؟ أم كيف تهدأ أحشاء بها ضرم روحي بحبهم والصبر منعدم .

ومنها :

على الحقيقة أولى عند ذي رشد محمد المصطفى الهادي الشفع ومن قطب النبيين من لولا كرامته .

لمدح خير الورى لن تصرف الهم عليه أمته في الحشر تزدحم ما كان بدر الدجى نصفين ينقسم .

ومنها :

إني تطفلت في مدحي ولست له عليك أزكى صلاة نشرها عطر والآل والصحب والثاني لهم بهوى وما شذا حلبتي في صبابته .

أهلا ولكني أهديته لكم ما طاب ذكرك في الأملاء والشيم ما انهلت المُزن واضطرت لها الأمم أرقتُ والدمع فوق الخد ينسجم .

وله في مثل ذلك قصيدة منها :

جمالك والذي خلق الجمالا لقد أخجلت أقمار الدياجي سلبت ذو العقول برمح قد جمعتَ مكارم الأخلاق طرا أيا من لحظه الفتان يرمي كُسيت برود حسن وابتهاج وفيك عواذلي مانصفوني فقلت لهم دعوني لاتلوموا وأقلقني النوى وأطار نومي فيا حُرقي ويا شجني إذا ما لقد علموا بوجدي واكتئابي دعوهم في قولهم فإني وحقهم ليعذب لي عذاب إذا ما كان يرضيهم عذابي فمن يعشق وليس له اصطبار وكيف ينال وصلا من حبيب وكيف يحوم حول الحِب من لم فمن يدخل حِمى العشاق زورا فكَم مثلي كئيب هاما وجدا أبيت مع النجوم ولي اجتهاد وأنشد في مديح الحب جهدي فضائله البهية ليس تحصى حبيب قد أتانا في ربيع به خلع الإله عليه نورا .

أعار الشمس حسنا والغزالا بوجه نير أبهى تلالا نضير مايس كالغصن مالا وفُقتَ الخلق شكلا واعتدلا إذا يرنو لعاشقه نِبالا ففاق الشمس نورك والهلالا فلم اسمع لعذالي مقالا لهيب البحر زادني اشتعالا وكاس الشوق ذرقني الخبالا جفاني مَن عهدتُ له وصالا وتاهوا منكرين له دلالا عُبيدهم لهم ابغي امتئالا أراه في محبتهم زلالا فاصغروا أن أرى عنه انتقلا على جور الملاح فلن ينالا ومنه الجِسم ما ذاق اعتلالا يُقدِم مهديا نفسا وما لا يكون عليه بينهم وبالا ومنه الدمع فوق الخد سالا لعلى أن أنال به منالا وإن حاز المواهب والكمالا ومن يُحصِى الحجارة والرمالا بمولده وقد كُسِي الجمالا فضاء الكون واشتعل اشتعالا .

وهي طويلة، وله في مثل ذلك :

فقا نبك من ذكرى حبيب وأربع ونندب أطلال الخيام بحاجر برورا لقد ساروا وبالخيف خيموا وقد أودع قلبي الجوى حين ودعوا توجعت من فرط الجوى ولام عاذلي فلو ذقت طعم الحب يا عاذلي لما .

بسفح اللوى بين العقيق فلعلع ونسكب من بين المعاجر أدمع وما رحلوا إلا بقلبي ومسمع كما تركوا جسمي طريحا بمصرع فقلت له دعني يحق توجع عذلتَ محبا فيهم لتفجع .

وآخرها :

سأشـدوا لخيلـي إن دنـوت لطيبة قفـا نبك من ذكـرى حبيب واربـع

وله من قصيدة همزية عارض بها همزيةَ الإمام البصيري، منها :

عج مجدا أمامك الزوراء وسل الحي كيف يبدو سناهم وأزاهر بانهم كيف تزهوا وغصون الرياض ماذا كساها وعليها قد باح عطر شذاهم فبواد العقيق والرقمتنين .

ببرور زهَتْ بهن قباء صاعدا في العلى له الأضواء بابتسام ضيائها العلواء نسمات الصباح والأنواء طاب من طيب نشره الفيحاء رُقِم الحُسن منهم والبهاء .

ومنها :

وبباب السلام سلم وقل يا طبتَ حيا وميتا وضريحا .

خير من أَم قبره الضعفاء ياحبيبا له سنتا وسناء .

ومنها :

حلبي أدلي إليك بمدح لم يُزح نوب حزنه وعناه وعليك الصلاة يا خير خلق .

ولسيب نراك تدلى الدلاء منك إلا سماحة وسخاء ما تغنت بأيكها الورقاء .

وله في قصيدة من مثل ذلك

نعم لي بميدان الغرام مصارع كتمت الهوى حتى أضر بي الجوى فلا عجب إن مزق البين مهجتي أراعي رقود الزاهرات لعل أن فلا القلب عاد من غرام ولوعة تُطاوعني العذال إن رمتُ صبْوة وكيف سُلُوى عن أحبه مهجتي مواضع ثدي الوصل عني ترحلت .

أصارع فيها ما إليه أُسارع وباح بما انضمت عليه الاضالع وقد اغرقتني بالدماء المدافع تُقرب من ليلي بذاك المطامع ولا الجفن من حر الصبابة هاجع وفي مطلب السلوان مالي مطاوع وهم من أضلاعي بدور طوالع فما ضر لو عادتْ إلي المراضع
.

وآخرها :

بل الكون والآفاق طاب بطيب من عليه صـلاة الله مـا حن عـاشق

بطيبة أشتات المحاسن جامع إليه ومـا تشدو بأيك ســواجع .

لقيته رحمه الله بجامع القرويين من فاس الإدريسية، حفظ الله سكانها، وشيد على قواعد العلوم أركانها... فحدثني رضي الله عنه أحاديث، أسكبت الدموع، وهزمت جيوش القساوة والجموع. أخبرني، قال : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : كان فتى من الأنصار يقال له ثعلبة، وكان يتصرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه عليه السلام يوما في حاجته، فمر في طريقه بباب دار رجل من الأنصار، فنظر إلى امرأة الأنصاري وهي تغتسل، وكرر إليها النظر، ثم تفكر فيما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي والإخبار، وخشي من فضوح الدنيا والآخرة، فخرج فارا بنفسه بين مكة والمدينة، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعلم له خبرا، فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : يا محمد إن الله يقرئك السلام، ويقول لك : الشاب الذي افتقدتَه أصاب ذنبا، ففر بنفسه إلى جبل بين مكة والمدينة، فسألني التوبة، فقال عليه السلام لعمر وسلمان : انطلقا واطلباه، فانطقا في طلبه، فوجدا راعيا يرعى غنما لأهل المدنية، فقال له عمر : هل لك علم بشاب بين هذه الجبال ؟ فقال : لعلك تريد الشاب الهارب بذنبه إلى ربه، فقال عمر : من أين علمت أنه هارب بذنبه ؟ فقال الراعي : إذا كان في جوف الليل خرج علينا من بين هذه الجبال شاب صغير السن، واضعا يده على رأسه، وهو يقول : إلهي ليتني قبضت روحي، وجعلت بعد ذلك ترابا، ولا أحضر فصل القضاء، فأوبخ بين يديك غدا، فقال له عمر : إياه أريد، فانطلق بهما إلى المكان الذي يخرج منه الشاب، فجلسوا يرقبونه، فلما كان الليل، إذا به قد أقبل واضعا يديه على رأسه، وهو يبكي ويصيح، فلم يشعر حتى قبضا عليه، فظن الشاب أن الله قد أخذه بذنبه، فجعل يدعو، ويتلجلج لسانه، ويقول الأمر بالله، فقال له عمر : لا بأس عليك أنا عمر، وهذا سلمان، فقال الشاب : أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنبي ؟ فقال عمر : إنه ذكرك بالأمس، فأرسلنا في طلبك، فقال الشاب : يا عمر سألتك بالله لا تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم إ وهو في الصلاة لعلي أسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأموت قبل أن أجتمع معه فأوضح بين يديه، فأقبلا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه في الصلاة، فلما سمع الشاب صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم خر مغشيا عليه، فلما قضى عليه السلام صلاته، إلتفت إلى عمر، وقال : ما فعل ثعلبة ؟ قال : هو هذا يا رسول الله، فجلس صلى الله عليه وسلم عند رأسه حتى أفاق، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خنقته العبرة، فقال عليه السلام : وما الذي غيبك عنى يا ثعلبة ؟ فقال : أذنبت ذنبا، فخرجت فارا من أجله، فقال عليه السلام : أفلا أدلك على ما يمحو الله به الذنوب والخطايا ؟ قال : بلى، قال : قل : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار "، ثم أمره بالانصراف، فرجع الشاب إلى منزله، ولازم الفراش ثلاثة أيام، ثم حضرته الوفاة، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فأخذ عليه السلام رأسه، وجعله على فخذه، فلما شعر ثعلبة بذلك، رمى برأسه عن حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فقال له عليه السلام : لم رميت رأسك في الأرض ؟ فقال : إنه رأس عصا الله، ولم يستحي من رسوله، لا يصلح أن يكون في حجرك، فقال له عليه السلام : ما تشكو يا ثعلبة ؟ قال : ذنبي يا رسول الله، فقال : بما تشتهي ؟ قال : المغفرة، فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له إن الله يقرئك السلام، ويقول لك : لو لقيني هذا العبد بملء الأرض ذنوبا، للقيته بمثلها مغفرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أبشر يا ثعلبة، هذا جبريل يخبرني أن الله قد غفر لك، فصاح الشاب صيحة، خرجت روحه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه، فلما فرغ من الصلاة عليه، جعل يمشي على أطراف أنامله، ويقول : والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا، ما قدرت أن أضع قدمي في الأرض من كثرة أجنحة الملائكة، يشيعونه إلى قبره، وأخبرني رحمه الله أن الفضيل بن عياض رحمه الله، كانت له ابنة صغيرة تشتكي وجع كفها، فقال لها أبوها يوما : يا بنية ما حال كفك ؟ فقالت : والله يا أبت لئن كان الله ابتلى مني قليلا، لقد عافاني كثيرا، ابتلى كفي، وعافى سائر بدني، فله الحمد على ذلك، فقال : يا بنية أرني كفك، فأرته، فقبلها، فقالت : يا أبت أنشدك الله، أتحبني ؟ قال : اللهم نعم، فقالت : سوءة لك من الله، ما ظننت أنك تحب مع الله أحدا، فصاح الفضيل رضي الله عنه، وقال : يا سيدي صبية صغيرة تعاتبني في حب غيرك، وعزتك وجلالك لا أحببت معك سواك. انتهى ما حدثني به رحمه الله.

ورأيت مكتوبا على ديوان شعره بخط الفقيه الإمام العالم الصدر البركة المشارك المتفنن، مفتي الإسلام وإمام جماعة الأعلام، أبي رافع سيدي عبد القادر الفاسي، ما لفظه يقول :

العبد الفقير إلى رحمة مولاه، الغني عبد القادر بن علي بن يوسف الفاسي تاب الله عليه، وغفر ذنبه، قد طالعت ما تيسر من هذا الديوان، السامي مقداره، اللائحة أنواره، من إنشاء صاحبنا وأخينا أبي العباس أحمد الحلبي، ضاعف الله له الحسنات، وجعل أوقاته معمورة بالطاعات، فقد نهج بذلك نهجا قويما، وحاز إن شاء الله أجرا عظيما، وجنة ونعيما، وكيف لا والممدوح سيد الوجود، وصاحب الكرم والجود، وأفضل من أجار المستجير، ووفى بالعهود، لا يهمل آمله، ولا يُخيب سائله صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحابته أهل الصدور والوفاء. انتهى.

ورأيت أيضا على ديوانه، بخط الفقهي العالم العلامة الصدر الأوحد شيخ الشيوخ أبي عبد الله سيدي محمد بن سيدي عبد القادر الفاسي المذكور، ما صورته : طالعت بعض ما اشتمل عليه هذا المجموع من غرر القصائد، من نظم صاحبنا الفقيه الأديب، الآتي من سحر البلاغة بكل عجيب، الشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الحي الحلبي، فألفيتها قد لبست حللا من نسائج بلاغته، وكسيتْ رونقا من نتائج براعته، مطربة للسامع، وآخذة للقلوب بالمجامع، يستعدب لطائف دقائقها الأديب، ويهتز لمعاني حقائقها ومثاني دقائقها الناسك الأريب، فهي نزهة للناظر، وجلاء للخاطر، واستنزال الغيث بأنواع الخير ما طر، وكيف لا تكون على أكمل وصف ؟ وأجمل رصف ؟ وهي مدائح سيد المرسلين، ولوائح نفحات من البر، ولمحات من السير، لها الأذواق تصغي، والقلوب تلين،

ولا غرو إن حازت محاسن جمة تروق سنا ترقى علا تزدهي حلى .

فمن مدح خير الخلق فيها فنون تبلغ أغراض بها وفنون .

وقد خيلت صاحبا، وقلت مخاطبا :

قل لابن عبد الحي قولة دار يا مجليا لعرائس الأفكار أعطيت مرغوبا حببتا مأملا .

قد جئتنا بماحسن الأشعار تزهو عُلى بمدائح المختار بلغت من غرض بلوغ خيار .

وكتب الفقير إلى رحمة ربه عُبيد الله محمد بن عبد القادر الفاسي، غفر الله ذنبه، وستر عيبه بمنه وجوده، وبتاريخ وسط سفر من عام سبعة وثمانين وألف، عرفنا خيره، ورأيت على ديوانه بخط الفقيه الإمام العالم العلامة أبي زيد سيدي عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي، ما لفظه :

قط طالعت من هذا الديوان ماراق الأعين والمهج، وصيغ من نور ممدوحه، فتضاءل سطوع طالعته النيرات والبلج، وآمال العمائم عن الرؤوس خضوعا، وأنسى رقص الحباب في الكؤوس نقوعا، إلى لفظ يرغب الشهد في احلولائه، وأن يباري برؤه المفؤود بشقائه، ويعتقل سمهري الصولة، فيقدم في الأدب أهله.

ويسلم بحبي على الأطراف، ثم لا تميل سنة النوم الأعناق إلا آفاق، ولا يزدرع حبا إلا في قلب تقي، ولا بغضا إلا في قلب شقى، وكيف لا ؟ وقد ألحم يوشيه وصف الجانب الذي لا تحوم رتبة إلا دونه، ورصع بحليه حلية من تحلى بأنهى رتبة مكينة، فهو وصاف سيد الروقة، وألاف كل مزية مرموقة، فلما أسفر عن خصيص الإنفاق في ذلك الشوق الرابح فيه كل مرزوق تجاذبته يد النزاع بين الأرضين، والإختصام فيه بين البلدين، فمن قائل : إنه استخرج من كنوز حلب، ورأى أنه من حيث صار لا من حيث ذهب، والحق أن الأنظار مختلفة ومؤتلفة، والأقطار بمزيتين : متصفة ومنصفة، الأصل أصل الحلال، كما أن المسك بعض دم الغزال، وللفحل فحل، والظهور كفعل الماء في الروض المحبور، والدر في النحور، لا في قعر البحور، لكن كل رزق مأوى تقدره المقادير عنده، ولكل سرحة أغصان لمن يشاء أن يتناولها معدة، فهي تكرمة لما استخرج فيه ثمارها، أو نشر فيه عرارها، وناهيك من تكرمة أرض أن يمدح فيه الرسول الأعظم، الهاشمي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وتطبع أوصاف طباعه، وتستنئل من كنائن السجايا أطراف سجاياه، لمن خص في مدحها بمرباعه، فلن تعصم بحول الله أرض يتداول فيها ذلك خيرا، ويؤمل بفضله ورحمته إبقاء ذلك عليها دهرا، فإن لمدح خير البرية صلى الله عليه وسلم مالا يجهل، مما لا يؤمل ولا يؤمل، في العاجل والمؤجل، صلى الله عليه وسلم وبارك وأنعم، وشرف وبجل، وأقول مبادرا للقيام بحق الإكرام، ومديرا أباريق مدام الكلام، غير معكوفة بمدام :

الشمس إن حسنت في الشرق منزلة فإن حسن العشايا فاق رونقه لذاك ما شاك شاك في محاسنه لولا العشايا لما كانت لها سمة ولاحكت كل لون في شمائلها ولا شكت ما تقاسيه النفوس لها كذا مقرط أبناء القريض غذا صدر الكلام وصدر الدست من حلب اسعد هنيئا أبا العباس من مدح فخير ما حاولت همات ذي همم صلى عليه إله العرش تكرمة .

ورفعة وضياء منه ينتفع في الغرب فيه فنون الحسن تجتمع إلا بشمس العشايا حين تصطنع من رقة الأدباء الطبع تنطبع يهيج منه اضطراب هز أو جزع وما بقلب شج قد كاد ينصدع بالغرب مبتهجا تزهو به البقع إن سل يوما على أهل النهى خضع في المصطفى وبها فليهن من ولع مدح الشفيع إمام الرسل إن شفع ينال مصطحب بها ومتبع .

هذا بعض ما يستغني عنه من التقريط إمام القريض، سيف الأدبا، وتاج الشعرا، نفعه الله بحسن طويته، وبارك له في يمنٍ...

وكتب في سابع السدس الثاني من سنة سبع وثمانين وألف (1087) عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، وفقه الله، وعفا عنه بفضله، ورأيت أيضا على ديوانه بخط الفقيه الأستاذ المحقق، شيخ الجماعة سيدي محمد بن مبارك المغراوي الوراق، ما نصه :

" وبعد، فيقول العبد الفقير المعترف باكتساب الخطايا، الراجي من مولاه سبحانه وتعالى أن يمنحه من رحمته وفضله جزيل العطايا، محمد بن مبارك المغراوي، صرف الله عنه باغتات الفتن وأليم الرزايا، أتحفني الفقيه العالم خاتمة أعلام الأدب، ومحيي رسوم ما مُحي من ربوع البلغاء الأنجاب، وأنيس المذاكرات بمن تقادم من ذوي المحاسن أو عاصر من الأصحاب، أبو العباس سيدي أحمد بن عبد الحي الشامي دارا، الحلبي قرارا، الفاسي رحلة ومزارا، أقره الله تعالى في أفضل ديار الإسلام سلامة في الدنيا والدين، وأعاننا وإياه على سلوك سبيل المتقين، وإتباع سنن سيد المرسلين، بمطالعة ديوان شعره العجيب، فحياني من بنات فكره بقصائد واضحة الغرر، منسقات الطرر، مبتسمات من ثغور الدرر، تسحر الألباب، وتذلل الصعاب، وترى من ناظمها العجب العجاب، وتسير إلى رقيه في منبر البلاغة بأقوى الأسباب، وزادها شرفا، وألبسها رونق المهابة والبها، وشنق آذان سامعيها من أولي النهى، إن كانت في مديح من خصه الله تعالى بأكمل الأوصاف، ووهب له من مواهبه اللدنية غامر الألطاف، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، أزكى الخليفة عند الله، وأشرف الأشراف، فلما أن كررت فيها نظري، وأمتعت بمستحسناتها بصري، أضرم مني زند شهبها ما كان كامنا، وحركت مواقعها ما كان عني ساكنا، فلا غرو إن قلتُ على جمود قريحتي، وفشل داعيتي وعزيمتي :

يا ابن عبد الحي حيا ونسيم الروض أحيا أبرزت منه غوان ساحرات الطرف ترنو نعم ما حليت منها فجزاك الله خيرا .

نظمكم وجه التهاني عرفه حي المغاني مالها في الحسن ثاني حليت سحر المعاني بشذور وجمان آمنا مكر الزمان .

قال هذا العبد المذكور، مقصرا في حق الصاحب الحلبي المشكور، بتاريخ أوائل ربيع النبوي من سنة سبع وثمانين وألف (1087 هـ)، عرفنا الله خيرها، ودفع عنا ضيرها بمحمد وآله صلى الله عليه وسلم".

ورأيت أيضا على ديوانه بخط الفقيه العالم المقرئ الأستاذ المجدد، قاضي فاس الجدير، أبي عبد الله سيدي محمد بن علي السليماني السجلماسي الأصل والقبيلة، الفاسي المنشأ والدار والمدفن، ما صورته :

"الحمد لله رافع منصب الأدبا، والمخرج من ضروع مزن سمائهم حطبا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح البلغا، الممدوح بكل اللغا، وبعد، فإني طالعت ورقات وعدة أيبات من هذه الكراريس، فإذا هي لكل محمدي خير جليس وأنيس، بيد أن ريح الأدب منها يفوح، وإنها بمكنون المحبة في الجناب النبوي تبوح، أنبأت بقدم في الأدب راسخ، وطود من الإيمان شامخ، وأظهرت مضمرات فصاحة قلم ولسان، وحدِث عن مسند أحمد بما شئت من طرق، فهي مع غرابتها حسان :

منظم الدر أهدته لنا حلب قد راق رونقه ورق منطقه وفاق نظم الألى قالوه أو كتب وشعرك عند العالمين عجيب سحر حلال وحُلى مدح الرسول المصطفى مديحه عمدة من وخير ما به تأو .

وكيف لا وهناك يُعرف الأدب ألا يا ابن عبد الحي أنت أديب إذا الشعرا طرا أتوا بمديحهم فأنت فيهم قائم وخطيب قد اكتساها الحلبي المجتبي المقرب يرجو بلوغ الأرب ب لبلاد حلب .

أقو هذا ولست موفيا بالمروم، ولا مؤديا بعض الواجب المحتوم، مع طول جمود القريحة، وربنا المسؤول أن يسكننا وإياه من الجنان فسيحه. وكتب عبيد الله محمد بن علي، وفقه الله آمين ".

قلت : ثم أطلعت بعد على كتابه المسمي بـ "كشف اللتام عن عرائس نعم الله تعالى ونعم رسوله عليه السلام". فرأيته يقول فيه : ما نصه : وجميع من أدركته بالمغرب من العلماء والقضاة والمحدثين، وأهل الأصول والبيان والمعقول، كتبوا خطوطهم على الديوان المديحي، وهم الشيخ عبد القادر الفاسي ثم سرد العلماء الذين قدمنا خطاباتهم، وزاد الشيخ محمد المجاصي، قاضي القضاة بالمغرب، والعالم العلامة المشارك، الورع الخير البركة الصدر الأوجه، الشيخ أحمد بن حمدان، والشيخ محمد المرابط الدلائي، صاحب "نتائج التحصيل في شرح التسهيل" لابن مالك، وأخوه الشيخ محمد الملقب بالشاذلي، والشيخ حسن اليوسي، والشيخ محمد الهشتوكي نزيل مراكش شيخ اليوسي، والشيخ على بركة التطاوني، والشيخ الأستاذ محمد البوعناني، خطيب مدينة فاس بجامعها الأعظم، فهؤلاء كلهم أدركتهم، واجتمعت بهم، علماء أبرار، وأهل فضل ومعرفة بالله تعالى وعمل، فكتبوا ووقفوا على الديوان، وشهدوا لي بفضل الله تعالى علي نظما ونثرا، ثم سرد من ألفاظهم ما هو أكثر من أن يثبت في هذا الكتاب. قلت : وله تآليف جليلة، تطفي للمطالع أواره، وتشفي عليله، منها تآليفه : "كشف عن عرائس نعم الله تعالى ونعم رسوله عليه السلام"، و "السيف الصقيل في الانتصار لمدح الرب الجليل"، و "فتح الفتاح على مراتع الأرواح"، وهي قصيدة له عينية كبيرة، و "معراج الوصول في الصلاة على أكرم نبي ورسول"، و "مناهل الصفا في جمال ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم"، و "مناهل الشفا في رؤيا المصطفى صلى الله عليه وسلم"، و "الروض البسام في رؤيا غيره عليه السلام"، و "السيف المسلول في قطع أوداج الفلوس المخذول"، وهو رجل أنكر عليه نداء النبي صلى الله عليه وسلم باسمه مجردا عن السيادة، في قصيدة يقول فيها :

وحقك يا محمد ما رأينا نظيرك في جميع العالمين

ومقاماته التي عارض بها الحريري، المسماة بـ "الحلل السندسية في مدح الشمائل المحمدية"، و "الكنوز المختومة في السماحة المقسومة لهذه الأمة المرحومة" في أربعة أسفار، و "الدر النفيس في مناقب الإمام إدريس بن إدريس"، و كتب له على مقاماته الفقيه العالم الحافظ المعقول، البياني المتكلم الجامع المانع، أعجوبة الزمان في العلوم اللسانية، وأحد المدرسين والحفاظ والمفسرين والمحدثين والفقهاء والبيانيين والأصوليين، الشيخ الأجل القدوة المبجل، أبو عبد الله سيدي محمد بن أحمد القسنطيني الكتاني، الشريف الحسني، والفقيه اللغوي الأديب النجيب، الرئيس العالم المحصل المحدث، الحافظ العلامة أبو مروان عبد الملك بن محمد التجموعتي السجلماسي، قاضي سجلماسة وأحوازها، وحين قدم بها على الديار التونسية، كتب عليها العالم العلامة، الشيخ الإمام مفتي الإسلام بتونس الخضراء ونواحيها، حاضرتها وباديتها، ومدرسها وغيث واديها، ومصباح ناديها، الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، المعروف بفتاتة، وحين قدم بها على الديار المصرية، كتب عليها العالم الأوحد الفاضل الأسعد، سلالة البيت الصديقي، ذو الأصل الحسيب الحقيقي، سيدي زين العابدين بن سيدنا العارف، صاحب الحقائق واللطائف، سيدي محمد البكري، والنسب المصري الدار، وكتب له على "الدر النفيس" الفقيه المحدث الحافظ الأديب المشارك، الشيخ عبد الملك التجموعتي الذكور، والعالم الفقيه الحافظ، قاضى القضاة بالمغرب، أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن المجاصي، والعالم العلامة المتضلع من علوم المعقول والمنقول، ما هو المسؤول والمأمول، الشيخ محمد أبو مدين المكناسي المولد والدار, وقاضي الحضرة وخطيبها ومفتيها، ومدرسها والعالم العلامة سيدي محمد القسنطيني المذكور، والفقيه المشارك البارع الحافظ العلامة أبو عبد الله الشيخ محمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي الملقب بالشاذلي المذكور، والفقيه الحافظ المشارك النجيب أبو مالك، الشيخ عبد الواحد بن محمد البوعناني، خطيب الجامع الأعظم بفاس، وإمام الجماعة، ومفتيها ومدرسها، وكتب على كتابه : "فتح الفتاح" النحرير الصدر، المجد المدرس القدوة، القاضي العدل بفاس الجديد، أبو العباس الشيخ أحمد بن سعيد، والعالم العلامة أبو عبد الله، الشيخ محمد بن أحمد القسنطيني المذكور، والفقيه المحدث المشارك، الأستاذ خطيب فاس ومفتيها، أبو عبد الله الشيخ محمد بن محمد البوعناني المذكور ولده، والشيخ الإمام القدوة البركة، أبو عبد الله الشيخ محمد بن عبد القادر الفاسي، وأخوه العالم الصدر الأوحد المدرس أبو زيد الشيخ عبد الرحمان الفاسي، والفقيه العالم الراوية قاضي الحضرتين الفاسية والمكناسية، أبو عبد الله الشيخ محمد بن الحسن المجاصي المذكور، والشيخ الإمام الدراكة الجليل المحصل، إمام الديار المكناسية بالحضرة السلطانية، الشيخ محمد أبو مدين المذكور، والحافظ الناسك الخير، أبو عبد الله الشيخ محمد الشاذلي المذكور، والفقيه العالم العلامة الماهر المشارك الدراكة الجهبيذ، إمام الجماعة، مدرس الحضرة الفاسية، قاضي فاس الجديد، أبو العباس الشيخ أحمد بن العربي، عرف بان الحاج، والفقيه النحرير، الخطير العالم العلامة البياني المنطقي، الفصيح البليغ، مفتي الديار المكناسية والحضرة السلطانية، أبو عثمان الشيخ سعيد بن أبي القاسم العميري التادلي، والعالم العلامة الجامع لأشتات العلوم، المنطوق منها والمفهوم، ذو التصانيف الباهرة والمؤلفات الزاهر، صاحب "الفتح الموهوب" أبو العباس الشيخ أحمد بن يعقوب الولالي رضي الله عن جميعهم".

قلت : وجميع ما خاطبه به هؤلاء الأعلام كله مستوفى بلفظه في كتابه "كشف اللتام" فليراجع هناك وبمطالعة هذا الكتاب وغيره من مصنفاته، يعلم مقدار هذا الرجل، وله مرائي إلهيه، ومخاطبات رحمانية، وأخرى نبوية، وذلك أكثر من أن يسعه هذا المؤلف، وبالجملة فقد جنح إلى المدح النبوي وداوم عليه، حتى قبضه الله على تلك الحالة إليه، وذلك في جمادى الثانية من عام عشرين ومائة وألف (1120 هـ)، وقبره معروف ومقصود للزيارة بموضع يقال له مطرح الجنة، يقابل الخارج من باب الفتوح أحد أبواب فاس بالناحية الأندلسية رحمه الله ورضي عنه.

1 comment:

hair said...

تعرف الان علي افضل مراكز زراعة الشعر في تركيا واحصل علي المزيد من العروض والخدمات في اسرع وقت ممكن ومن خلال مجموعه متخصصة من الخبراء والاطباء المتخصصين في زراعة الشعر في تركيا ويمكنك الان الحصول علي افضل المميزات والخدمات من خلال مراكز زراعة الشعر في تركيا مع التعرف علي افضل الطرق والاساليب مع الاستفسار عن تكلفة زراعة الشعر في تركيا والتي نوفرها باسعار مناسبة للجميع .